لوحات مشوهة بمهارة

 القبح كمنظور للنقد .. بقلم / فريدة يوسف

---------------------------------

ماذا لو تعمدنا القبح؟ .. ألا يمكن حينها أن يعبر بشكل أفضل من الجمال؟

معرض "عقيقة رمبرانت" يمثل حواراً لعمر جبر مع الرسم من زاوية قبيحة. يبدو الأمر هنا بالطبع كما لو كان الفنان يحتفي بالقبح. ولكن، ألا يسمح هذا الانحياز البصري تجاه القبح لعمر جبر بتأمل نفسه كمصور؟  دعونا نفكر قليلاً.. فالقبح هنا يمكن أن يكون وسيلة لفهم السياق الذي يتم فيه إنتاج العمل، أو بمعنى آخر: قد يصلح القبح كمنظور للنقد أو للتحدي، ما يساهم في اتساع فهمنا لطبيعة الرسم كممارسة فنية.

اللوحات القبيحة يمكن أن تكون جميلة أيضاً.

إحدى الطرق التي نتفاعل بها مع الأعمال الفنية هي الحكم عليها أو وصفها، وغالباً ما تعطي هذه الأحكام الذوقية قيمة للعمل الفني. عندما نحب شيئاً نصفه بالجميل، ويكون قبيحاً حين لا نستسيغه أو يتعارض مع أذواقنا. حتى في تاريخ الفن كان هناك سعي لربط الجمال بالخير والقبح بالشر. في هذه الأعمال التي عُرضت في قاعة أوبونتو خلال شهر فبراير تحت عنوان عقيقة رمبرانت يتحدى عمر جبر هذا التصنيف متسائلاً عن معنى الذوق الجيد.

وجه امرأة / فريدريش فون أمريلنج- رسم عمر جبر

العمل الأول الذي سيواجهنا هنا هو نسخة من لوحة الفنان النمسوي فريدريش فون أمرلينج "Friedrich von Amerling" (وجه امرأة) والتي يحاكيها جبر بمهارة تامة. رسم أمرلينج هذه اللوحة في حدود عام 1840 ، وهي لامرأة في ملابس فخمة. اللوحة بشكل عام تُعد نموذجاً للبورتريه الكلاسيكي، إذ يتتبع العمل معايير الرسم الكلاسيكية المُتعارف عليها، من التوافق بين الألوان إلى التكوين المتوازن.  

هذه النسخة من البورتريه ليست مجرد تجسيد للبراعة أو المهارة في الرسم، يمكننا اعتبار الأمر مشابهاً لعمل الفنان الدنمركي أسجر جورن Asger Jorn  (تحولات Modifications ١٩٦٢). في هذا العمل قام جورن بتشويه سلسلة من اللوحات الزيتية المجمعة من أسواق السلع المستعملة في باريس. في سلوك مشابه لما قام به جورن، يتحدى جبر هنا أيضاً الممارسات الكلاسيكية بوضعها في مساحة واحدة مع رسوم الجرافيتي. هو مصور، لكنه يشوه شخصياته ولا يلتزم بالقواعد. في إحدى اللوحات يبدو الوجه كما أنه قد تم دهسه، في حين يتمدد في لوحة أخرى على نحو بالغ. إلى جانب تشويه العناصر، يلجأ جبر إلى البناء اللوني عن طريق وضع طبقات من الألوان الزيتية فوق رذاذ اللون كمحاكاة لتقنيات الجرافيتي، كما لو كان يتعمد تشويه العمل. في بعض اللوحات يوظف جبر صوراً لألعاب بلاستيكية رخيصة، وهي ألعاب شائعة في مصر لتزيين مركبات التوكوك المنتشرة في المناطق العشوائية، وهو مزيج يسم العمل بالقبح بلا شك.

أسجر جورن


تصميم داخلي / عمر جبر

يبدو أن الهدف من كل هذا هو اختلاق مواجهة بين الجمال والقبح، يمكننا اكتشاف ذلك بسهولة في هذا العمل الذي يمثل تصميماً داخلياً لأحد المنازل. في هذا التكوين نلمح أريكة فخمة ومدخنة وسجادة، وهي عناصر شائعة في الأعمال الكلاسيكية، ولكن بدلاً من الصياغة الكلاسيكية المتوقعة لهذه العناصر، يُقحم جبر نفسه في هذه المساحة بلا مُبرر. نرى هنا وجه الفنان المشوه يزين تلك الغرفة. يتلاعب جبر بأذواقنا عبر هذا المزيج الذي يتحدى فيه القبح عناصر الجمال الكلاسيكية، وكأن القبح قد انفلت من عقاله، أو لم يعد للجمال أي سلطة على القبح.

اللوحات القبيحة يمكن أن تكون قوية

أسلوب عمر جبر المتعمد يتناسب مع القبح الذي يحيط به، فهو ليس مجرد سرد للجماليات، بل قد يكون وسيلة أيضاً لرؤية اثر القبح بالرسم. من خلال القبح، يسعى الفنان إلى استرجاع الواقع القاسي للعالم الذي نعيش فيه. ما يستعيره الفنان من الجرافيتي ليس جمالياته فحسب، بل قوته التعبيرية أيضاً. تتكون الخلفية في العديد من هذه الأعمال من أسطح مطلية بالرش تحاكي الجرافيتي وتؤكد حالة التسطيح، وهي صفة أساسية في الرسم. كما ينتقي الفنان بعض المناطق أو الموضوعات أو الشخصيات ويرسمها بالألوان الزيتية في صياغات مدرسية، فهو فنان مخلص أولاً وأخيراً للرسم. حتى عنوان المعرض يُعد احتفاءً بالوسيط وتكريماً لهؤلاء الرواد الذين يستعير تقنياتهم وأساليبهم لإبراز القبح.

حتى رسم القُبح يحتاج إلى مهارة، فرسم السياق القبيح هو أولاً وأخيراً معالجة بصرية للشكل. يمكننا هنا اكتشاف أهمية وجود الأجساد في لوحات جبر، فهي تمثل الأشكال المركزية في لوحاته، ويسهم تشويه هذه الأشكال في تأكيد هذه الصياغات القبيحة.

عمرجبر

عمر جبر

 

يبدأ جبر عادةً بتركيب رقمي يتلاعب فيه بهيئة الأجساد، ثم يتمادى في التشويه بتوظيفه لهذا التركيب داخل اللوحة. يمكننا أن ندرك كذلك مدى التحرر الذي يتيحه القبح في معالجة الأجساد، والتي تكاد أحياناً أن تتحول إلى شىء آخر. هناك وجوه تتحول إلى حالة الذوبان أو التبخر وتتداخل تفاصيلها مع العناصر من حولها. في حديثه عن إيماءات فرانسيس بيكون تسائل ميلان كونديرا: (1) "إلى أي درجة من التشويه يظل الفرد نفسه؟. يمكننا القول إن تشوه الجسد والشكل هو دليل على القوة التعبيرية في أعمال جبر، ومع تحرر القبح من سلطة الجمال، يُترجم الجسد المشوه في العمل إلى مشاعر وأحاسيس حية. لا يتحدث جبر هنا عن القبح، بل يقدمه كتجربة حسية، لذا يجب الشعور بعمله وليس مشاهدته فحسب.

تعليقًا على العنف في عمله، قال فرانسيس بيكون: "أريد أن أرسم الصرخة أكثر من الرعب" (2) لذا فقد سعى بيكون إلى خلق وتأكيد هذا الشعور لدي المتلقي. قبح تعابير عمر جبر يفعل الشيء نفسه. في إحدى لوحاته نرى تلة ذات أجواء شاعرية مرسومة بألوان الرش المستخدمة في عمل الجرافيتي. في أعلى هذه التلة ثمة بقع حمراء تشبه اللحم، عند النظر إليها عن كثب سنلمح فم مخفي، يبدو أنها صورة لوجه تم وأده في وقت مبكر جداً أثناء عملية الرسم. عمل جبر على هذه اللوحة في أعقاب العدوان المستمر على غزة. في الحقيقة، لا يوجد أي تمثيل لتلك الحرب هنا، غير أن كل ضربة فرشاة ترسم صرخة.

عمر جبر

اللوحات القبيحة يمكن أن تكون خَيّرة

القبح في أعمال عمر جبر لا يتعلق فقط بالجماليات، بل بمُسألة أخلاقية أيضاً، فإذا كان القبح يصور الواقع المحيط بالفنان، فإنه يستخدمه للتواصل معنا. يشبه الأمر قصة أو خرافة ذات معني أو حقيقة تنكشف لنا في النهاية، حيث تتحدث الحيوانات بشكل مجازي. الفنان نفسه هو بطل الرواية في تلك القصة وهناك شخصيات غريبة أخرى أيضاً. سنجد تركيزاً على الحيوانات والوحشية في العديد من اللوحات. تتكرر صورة النمر في ثلاثة أعمال على سبيل المثال.

علاوة على ذلك، فإن التشوهات في أعمال جبر تنتج وحوشاً، وفي إحدى الوحات نرى خروفاً يحمل رأس جبر في فمه. أسنان الخروف تشبه الكلاب مما يجعل المخلوق المسالم وحشاً في هذا السياق. وفي لوحة أخرى نرى نمر جالس له ثلاثة رؤوس بشرية، وهو مخلوق هجين يرمز للقبح. هذه الوحوش تثير فينا الاشمئزاز، ولكن، ما الذي نشمئز منه؟ إن عمر جبر يجمع هنا بين الحيوان والإنسان ويجعلهما متساويين، وتنطبق بشاعة أحدهما على الآخر، إنها تصور قبح الإنسان ذاته.

في مُجمل الأعمال هناك اهتمام برسم العيون وإبرازها، ربما كانت الملمح الوحيد الذي لم يطاله التشويه، وهناك عملين يركزان على العيون فقط، كما أن  معظم الأعمال عبارة عن صور لشخصيات تنظر مباشرة إلى عين المشاهد. يبدو أن عمر جبر يضع أمامنا مرآة لنرى انعكاس بشاعتنا من خلالها. في الكثير من الأعمال أيضاً سنرى تمثيلاً غير مباشر للجحيم، ثمة لوحة واحدة تتمحور حول هذا الموضوع. في  هذه اللوحة نرى الشيطان واقفاً إلى جوار جدار من الطوب ويرمقنا بنظرة متحدية، بينما تنظر إليه الملائكة والزهور من مستوى أدنى.

الجحيم من فعل الإنسان، فبدلاً من أن يكون مجرد تمثيل للشر، فإن القبح هنا يعمل على تجريد الإنسان من إنسانيته، وعلى إدانة شروره، وكشف تلك الحقيقة له. يمكن قراءة هذه اللوحة على ضوء ما قاله بودلير حين كان يبحث عن زهور الشر: "أيها القارىء المنافق.. ياشبيهي.. ياشقيقي" (3) . القبح هنا يعمل كمظور لنقد الحكم، وما هو إلا حامل للأخلاق، أو هو قبح يحمل بذور الخير.

إذا ما كانت التشوهات اختباراً لحدود الجسد، فإن القبح هو اختبار لحد اللوحة. غير أن أعمال جبر تبدو أكثر مرونة من  هذا الأمر، فالتشويه والتخريب يتجاوران في أعماله مع الجمال. لقد اختار جبر القبح لنقد أذواقنا وأحكامنا، إنه تخريب مرح لحدود الخير والجمال. 

----------------------------------------------------- 

(1) ميلان كونديرا- لفتة الرسام الوحشية- في لقاء عن فرانسيس بيكون  

(2)  من حوار مع أنطوني بيلي، نيويورك تايمز- مارس 1975 

 (3) شارل بودلير- "إلى القارىء" من "أزهار الشر"

 للتعرف على تجربة الفنان الدنماركي أسجر جورن عبر هذا الرابط

https://cobra-museum.nl/museum/cobra-artists/asger-oluf-jorgensen-vejrum-1914-aarhus-1973/?lang=en

للتعرف على أعمال الفنان عمر جبر عبر هذا الرابط 

https://ubuntuartgallery.com/omar-gabr/

(معرض الفنان عمر جبر أقيم في قاعة أوبونتو في الفترة من 5 فبراير وحتى 9 مارس)

حقوق الصور محفوظة لجاليري أوبونتو

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حازم المستكاوي

حسن خان

أيمن السمري