يوسف ليمود

 

 

ما هو الفن المُعاصر؟

"سؤال بسيط وشائك في آن، موجه للفنانين والفاعلين في مجال الفنون البصرية. هو سؤال بسيط لوضوح معناه، وشائك بقدر ما يحمل مصطلح المعاصرة من التباس في محيطنا. بين المعنى المباشر للكلمة، ودلالاتها كمفهوم ثمة اختلاف وخلاف بالطبع. لا يعنينا الاختلاف حول معنى الكلمة ودلالتها اللغوية، بل الخلاف حول المُصطلح كمفهوم ثابت أو متعدد الدلالات. غير أن ما يهمنا أكثر هنا هو تسليط الضوء على الرؤى الشخصية لهذا المفهوم. تتضمن هذه المساحة نصوصاً لفنانين فاعلين محلياً ودولياً يتحدثون خلالها حول مفهومهم الشخصي للمعاصرة"

(ستنشر هذه النصوص تباعاً على سحابة)


لا شك أن كتابة تصور شخصي عن معنى المعاصرة في الفن أسهل كثيراً من محاولة رصد تاريخ هذا المعنى واشتباكاته المعقدة مع العديد من التصورات التنظيرية المختلفة والمتناقضة التي ساهمت في تشكيله منذ ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم. ولكن بدايةً يجب، ولو بشكل عابر، أن نجعل الحدود بين ما يُسمى “الفن الحديث“ و “الفن المعاصر“ واضحة. “الفن الحديث“ مصطلح يصف نهجاً معيناَ في التناول الفني، تكمن في داخله تشعبات فكرية وتقنية متعددة تطورت جميعها من مفهوم الحداثة، الذي كان نتاجاً لتطور المجتمعات الصناعية. فكل من الانطباعية والتكعيبية وحركة دادا والسيريالية والتعبيرية والتجريدية… كانت جميعها نتاج تفاعل مباشر مع تطورات الواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية في المجتمع الغربي. وقد شكلت هذه الاتجاهات الفنية حساسية قرن كامل تقريباً، من ستينيات القرن التاسع عشر الى ستينيات القرن العشرين.

نحن إذن أمام منظومة فكرية ذات أشكال وممارسات ترسخت خلال مئة عام تقريباً. فالإنتاج الفني الذي يتبنى خصائص تلك المنظومة، أو تلك الاتجاهات الفنية، اليوم، لا يوصف بكونه فناً معاصراً، رغم الالتباس اللغوي في حقيقة أنه وليد اليوم. وذلك لأن فكر ما بعد الحداثة، الذي خرج منه الفن المعاصر، هو نوع من قطيعة مع نظريات وممارسات ما يسمى “الفن الحديث“، تلك الممارسات التي تنحصر غالباً في فكرة اللوحة والتمثال والتقنيات المتنوعة التي تجري على سطحهما. فالنتاج الفني الذي يمكن أن نطلق عليه صفة المعاصرة هو شيء منسلخ عن مفهوم الحداثة، يتجاوز رؤاها وتقنياتها. إنه أقرب لعملية التفكيك التي تبنتها الفلسفة المعاصرة، مشتبكة في ذلك مع خطاب الواقع، بكل أبعاده وأزمنته، الآنية أو التاريخية. هذا توضيح سريع فقط لفض الاشتباك بين هذين التصنيفين، الحديث والمعاصر.

وبقدر قطيعة “المعاصر“ مع “الحديث“، بقدر اشتباك الأول مع الواقع، وبالتالي مع الحياة، حد التماهي أحياناً. فقد مدّ البعض خط “المعاصر“ على استقامته لتصبح ممارسة الحياة نفسها عملاً فنياً. هنا صار الفن المعاصر أشبه بفعل التأمل البوذي: لا طريقة ولا شرح عن الكيفية، فقط جلوس وممارسة فعل غير محدد بقوانين. فعل لا يحكمه إلا الوعي بكل المفردات الفكرية التي يتم التعامل معها. وهنا يمكن أن يصبح حتى الإحجام عن فعلٍ ما عملاً فنياً، حسب الظرف والمكان. تماماً كفعل الصمت في غرفة يتكلم كل من فيها.

قبل عشر سنوات كان الفنان الأمريكي ديفيد هامونس في زيارة للقاهرة وتمت دعوته لإقامة ندوة في دار الأوبرا عن أعماله. وكانت القاعة مكتظة بالجمهور الذي طُلب منه كتابة أي سؤال على ورقة يترجمها أحدهم للفنان ويقوم الفنان بالرد عليها. وبعد خمس دقائق بالضبط من بدء الندوة ومع السؤال الثاني تقريبا، نهض الفنان وأدار ظهره للجمهور وخرج، مسبباً لغطاً وعلامات استفهام وتعجب من جمهور الحاضرين ومنظمي الندوة. كان هذا في نظري عملاً أو حدثاً فنياً لا يقل قيمة عن عمله الأدائي الذي وقف فيه في البرد القارس في أحد شوارع نيويورك يبيع كرات من الجليد مختلفة الأحجام. كذلك عمل الفنان الألماني يوزف بويز في “دوكيومنتا كاسيل“ السابعة 1982 الذي كان عبارة عن فكرة غرس سبعة آلاف شجرة بلوط في المدينة. أفكار (أي أعمال) كهذه لا تتحرى الجمالية بمعناها المألوف قدر نيتها على التأثير في الواقع والإشارة إلى الأبعاد اللا مرئية فيه. العمل الفني المعاصر، بالنسبة لي، هو أي فعل مناسب لمكانه ولحظته يسبب الدهشة ويترك أثراً في النفس، على أي مستوى، فكري أو شعوري أو حتى جمالي خالص. ولتحقيق هذا الأثر أو هذه الدهشة، يجب أن يكون هذا الفعل فريداً.

كان رامبو سابقاً لزمنه حين صاح: “يجب أن نكون عصريين تماماً“. أعتقد أنه كان يقصد الوقوف على نقطة الأصالة، حيث اجترار الأشكال دحض لفكرة المعاصرة.

 






 






 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حازم المستكاوي

حسن خان

أيمن السمري