أحمد شوقي حسن

ما هو الفن المعاصر؟

سؤال بسيط وشائك في آن، موجه للفنانين والفاعلين في مجال الفنون البصرية. هو سؤال بسيط لوضوح معناه، وشائك بقدر ما يحمل مصطلح المعاصرة من التباس في محيطنا. بين المعنى المباشر للكلمة، ودلالاتها كمفهوم ثمة اختلاف وخلاف بالطبع. لا يعنينا الاختلاف حول معنى الكلمة ودلالتها اللغوية، بل الخلاف حول المُصطلح كمفهوم ثابت أو متعدد الدلالات. غير أن ما يهمنا أكثر هنا هو تسليط الضوء على الرؤى الشخصية لهذا المفهوم. تتضمن هذه المساحة نصوصاً لفنانين فاعلين محلياً ودولياً يتحدثون خلالها حول مفهومهم الشخصي للمعاصرة. 

(ستُنشر هذه النصوص تباعاً على سحابة)


 (مقطع من الفصل الثاني عشر من رواية «انهيار مصنع الفن
المعاصر» بعنوان «وكأنَّ دوائرنا هي العالَم كله)

 

أحمد شوقي حسن


حدَثَت مشادة كلامية نجح البعض في إخمادها قبل أن تتطوَّر إلى شيء آخر، اكتشفتُ أن قراري بالفرجة على التليفزيون- حتى لو بهذا التركيز الضئيل وسط هذا الكرنڤال- مناورة ناجحة منعًا للتورُّط في شيء بالمكان، بالرغم من محاولات البعض للتواصُل- على الأقل بالعين- لكني نجَحتُ في إحباطها؛ فأنا هنا مجرد ضيف لدقائق، بالإضافة إلى أنني مُجهَد للغاية وليست لديَّ طاقة لمثل هذه التعارُفات غير الطموحة، هكذا ظَللتُ أفتعل مشاهدة التليفزيون حتى اكتشفتُ أن أحدهم على الضلع المجاور للطاولة ينظر نحوي بتركيز وكأنه يعرفني، رجلًا تبدو عليه هيبة يستمدُّها مِمَّن حوله، الذين سمعتهم أكثر من مرة ينادونه بـ "البَرَكة"، شكله في مطلع الخمسينيات من عمره، رأسه صلعاء وفي منتصف جبهته وحمة مقشورة تشبه علامة الصلاة، أو هي بالفعل كذلك، ملابسه رياضية، ويرتدي في يده اليمنى ساعة ذكية، واليسرى منقبضة على علبة سجائر معدنية وهاتف ذكي وسلسلة مفاتيح عملاقة، يبدو عليه من أنصار أسطورة ظفر الخنصر الطويل، للحظة كان التعرُّف عليه أمرًا مثيرًا، وقد حدث بالفعل، بالرغم من رائحة الكحول الخالصة التي تفوح من ناحيته، جاريته في دردشة ابتَدَت من معطيات حولنا ثم تشعَّبَت إلى أصداء الحياة اليومية، حتى وجَّه لي سؤالًا كان التَّهرُّب من الإجابة عنه أحد أسباب ارتضائي بالجلوس هنا:

-          أُمَّال معاليك بتعمل إيه؟

-          زي ما معاليك شايف مستنِّي الأكل.

-          لأ أقصد بتعمل إيه في الدنيا؟

-          وهيفرق إيه اللي أنا بعمله في كلامنا؟

-          لا مؤاخذة أصل شكلك مش وغد عشان تيجي هنا؟

أضحكني تعبيره فجاوَبتُه بهدوء:

-          فنان.

-          فنان؟ فنان إيه يعني؟

-          فنان وغد يا سيدي.

وضحكتُ ثانية، فسكت الرجل متجهِّمًا، ثم أتبع قوله:

-          إيه هو يا عم اللي فنان وغد؟ باقول لك شكلك مش شبه المكان هنا؟ قوللي يلَّا بتعمل إيه يا فنان؟

-          ليه يا بركة؟ الموضوع مُعقَّد حبتين صدَّقني، وبصراحة أنا مش حابب أدوِشك معايه.

ظلَّ الرجل صامتًا منتبهًا ينتظر برهاني، فأكَّدتُ له ثانية أننا لسنا في سياق يسمح لمثل هذه الأحاديث الجادة، فتمسَّك بالأمر قائلًا:

-          أنا باجي هنا أساسًا عشان اتكلِّم، وبعدين هو احنا هنتكلم عن إيه؟ ده الفن مش الذَّرَّة يعني.

-          مهو الفن اللي انت عاوزنا نتكلِّم عنه ده مش الفن اللي انت متوقَّعه، زي اللي بييجي في التليفزيون.

-          قصدك إيه يعني؟ أنا مابفهمش؟ لاحظ إنك متعرفنيش... يلَّا يا فنان قولِّي بتعمل إيه أنا سامعك؟

 يبدو أنني كنتُ متحذلقًا بما فيه الكفاية مع وغد أجهل إمكانياته، أدركتُ ذلك عندما لـمَّح إليَّ بتعابير وجهه الممتعضة أكثر من مرة؛ ما جعلني أشعر بريبة وحرَجٍ، لولا أنقذني دخول الشيف بيننا لتنزيل الأطباق، رائحة الشواء لا تُقاوَم، تخيَّلتُ أنها ترتيبة قدَريَّة قد تمنحني فرصة هائلة للصمت، وتجعله يستحي ويتركني آكل وشأني، فإذا به يقول:

-          كمِّل يا فنان... سامعك... إيه هو الفن اللي بتعمله؟

 أإلى هذا الحد انهار بيننا حائط الثلج؟ فكَّرتُ في تلك اللحظة ماذا سيحدث حين أشرح له أطروحات آلان باديو عن الفن المعاصر، ثم نظَرتُ في وجهه متأمِّلًا بينما أتخيَّل رَدَّ فِعله على ذلك، فوجدتُ وجهًا متجهِّمًا لا ينُمُّ عن مشروع مُحتَمَل لتبادُل الحوار؛ فعيناه حمراوان، ومسدلة من أثر الشُّرب، أمَّا وجنتاه فمشدودتان قليلًا لتُوحِيَا بابتسامة خفيفة، لكنها مستمرَّة، وغير مُبَرَّرة، فضحكتُ من عبث السياق، لكن ضحكتي هذه استفزَّته للغاية، فردَّ مستهزئًا:

-          آه فهمت، إنت مكسوف تقول إنك كوميديان... صح؟

 حقًّا أشعر بورطة تستلزم دخولي مباراة مع هذا الوغد أو رحيلي عن هذا السياق بالكامل، لكن معدتي تتضوَّر جوعًا، والأكل أمامي شكله شهيٌّ ومثير للغاية، وما زلتُ لم أمسسه إلى الآن، يكفي كوب ماء السَّلاطَة الذي تشعُّ منه رائحة مزيج الخلِّ مع الشطة والبقدونس والكزبرة والكمون، نخاشيشي لا تحتمل أكثر من ذلك.

ماذا لو أحدِّثه عن مهنتي، مهنة الفن المعاصر في ضوء أطروحات آلان باديو، كالمتوالية الذاتية اللا متناهية ضمن الحدود المتناهية للمادة وفي يدي عَظْمَة الدَّبُّوس بعد إخلائها من اللحم إثر عَضَّةٍ غشيمة من فمي، ثم أشرح له مفهوم الفن المعاصر كإنتاج لا شخصانيٍّ لحقيقة عامَّة وأنا أزيل الجلد المحروق من فوق لحم الصَّدر لأنهشه بأسناني دون حياء، ثم أضع سبَّابتي أمامه في كوب ماء السَّلاطة لأقلبها بدلًا من الملعقة وأنا أشير إليه أين يقع صلب الفن المعاصر في الشوائب المثالية التي تتكوَّن خلال عملية ذهنية تستهدف تنقيته... ولِمَ لا؟ ربما قد تنجح تلك الحيلة وأستطيع أن آكل من دون حرج.

بدأتُ بالفعل في الشرح له، وقبل أن أصل إلى مرحلة تناوُل الأكل غيَّر الرجل وضعيَّته تدريجيًّا بعدما كان نصفه العلوي ملتفًّا نحوي، فأصبح ناظرًا أمامه ناحية مجموعة شفيقة وما زالت رأسه تهتزُّ تأمينًا على كلامي، ثم بدأ في جمع قشر الترمس من على الطاولة أمامه ليرسم به سمَكةً بلا عين، ظللتُ أسترسل أكثر فأكثر، حتى ذهبتُ به أينما لا يجوز للفن المعاصر أن يكون ديمقراطيًّا، إذا كانت الديمقراطية تقتصر على الامتثال للمفهوم الإمبريالي للحرية السياسية، يبدو أنني اندمجتُ وما زالت رأسه تهتزُّ، فأخَذتُ قشرةَ تِرمس من أمامه ووَضَعتُ للسمكة عينًا وأنا أتابع القول هكذا، حتى نظر إليَّ الرجل وحذف عين السمكة التي وضعتها مقاطعًا حديثي في بطء ومعاناة وثِقَل في مخارج الحروف؛ فقد أصبح ثملًا، ثم نهض فجأةً، في محاولة جادَّة منه للصعود أعلى الطاولة، ولا أحدَ هنا يبالي بما يفعله غيري، فسألتُه وأنا في توتُّر بالِغٍ:

-          خير يا بركة؟ بتعمل إيه؟ إنت كويِّس؟

فأجاب في ضجر وهو متعسِّر في الصعود:

-          أصلك فهِّمتني إن الفن المعاصر ده كأنه العالم كله.

-          طيب انت بتعمل إيه دلوقتي؟ ممكن تُقَع...

-          هاوَرِّيك إيه هو الفن المعاصر.

ثم وقف الرجل في منتصف طاولة البلياردو كتمثال ميداني، رافعًا زجاجة بيرته للسماء، وبيده الأخرى فتح سوستة بنطاله، وبدأ يتبوَّل في المطلق...!

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حازم المستكاوي

حسن خان

أيمن السمري