عين النمرة.. حين تتحول الصورة إلى ساحة للمواجهة والنجاة
تبدو صور مشروع "عين النمرة" كما لو كانت شذرات من حلم قلق، تحاول أن تُلملم ما تبعثر من الذاكرة وتكسر جدار الصمت الذي يلفّ الحكايات الخفية في الطفولة والبيت والدين والمجتمع. في هذا العمل الفوتوغرافي الذي يتوسل التجريب والتركيب، تخوض الفنانة المصرية هبة خليفة رحلة لإعادة بناء أرشيفها الشخصي، لا بهدف استرجاع الماضي فحسب، بل لصياغة موقف بصري واعٍ، يقاوم العنف البنيوي ويكشف عن التواطؤ الجماعي مع أنماط القمع الموجهة ضد النساء.
مشروع "عين النمرة"، الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان آريل الدولي العريق، ينهل من أرشيف العائلة، لكنه لا يُعيد تقديمه كما هو، بل يعيد تركيبه من جديد عبر تقنيات القص واللصق، والكتابة اليدوية، والتلاعب بتفاصيل المشهد. الصورة هنا لا تقف عند حدود التسجيل، بل تصبح وسيلة لإعادة تأويل الذات، ورصد تحولات الجسد والهوية، في سياق معقد من الألم والكتمان.
يحمل عنوان المشروع "عين النمرة" دلالة مزدوجة، إذ أن العبارة تُستخدم في سياقات ازدرائية تصف نظرة المرأة المتمردة أو الخارجة عن السياق الاجتماعي المقبول. لكن خليفة تستعيد هذه النظرة وتمنحها معنى آخر؛ إنها عين ترى، وتشهد، وتفضح، وتُصِرّ على الحضور. تتحول الإهانة إلى شارة قوة، ويغدو المشروع بكامله بمثابة استعادة رمزية للكرامة، في مواجهة بنية اجتماعية تفضل التواطؤ على المكاشفة.
ضمن هذا الإطار، أعلنت لجنة تحكيم المهرجان عن فوز هبة خليفة بالجائزة الشرفية لهذا العام، تقديراً لجرأة مشروعها، وتفرّده في إعادة بناء السرد الشخصي بأدوات فوتوغرافية، وفنية معاصرة، تسائل ليس فقط أشكال التعبير، بل أيضاً ما يُمكن للكاميرا أن تفعله حين تصير أداة مواجهة ومصالحة في آنٍ واحد.
في نسخته الجديدة، لم يخرج مهرجان آريل للتصوير الفوتوغرافي عن تقاليده في استضافة مشاريع تشتبك مع الهامش، وتطرح أسئلة عن القوة والذاكرة والتمثيل. امتدت فعاليات المهرجان في فضاءات أثرية بالمدينة الفرنسية الرومانية، حيث تحوّلت الكنائس المهجورة والأديرة القديمة إلى منصات لعرض مشاريع فوتوغرافية من مختلف بقاع العالم، مع تركيز لافت هذا العام على التجارب القادمة من أميركا اللاتينية.
لكن ضمن هذه الوفرة البصرية والموضوعية، استطاع مشروع "عين النمرة" أن يفرض نفسه بقوة، ليس فقط لأنه يتناول موضوعاً حساساً كالعنف داخل المجال العائلي، بل لأن المعالجة نفسها بدت مختلفة. بعيداً عن المباشرة، اختارت خليفة أن تتسلل عبر الصور بصمت، تتقاطع فيها البراءة المصطنعة لطفلة في ألبوم عائلي، مع الشروخ التي تفضحها التوليفات المركبة والخطوط المتعرجة. المشروع يُقارب تجربة شخصية لكنها في الوقت نفسه تفتح أفقاً جماعياً؛ ففي كل صورة تتجاور وجوه وأجساد نسوية، مطموسة الملامح أحياناً أو منقسمة بين وجهين، كأن الفنانة تضعنا أمام تمرين تأملي في الهوية الأنثوية التي جُبلت في مجتمعاتنا على الازدواجية والتناقض والتخفي.
ما يلفت في مشروع خليفة هو أن الصورة لم تعد سجلاً للحظة، بل عملية علاجية. في كثير من اللقطات تظهر الفنانة كباحثة عن ملامحها الضائعة، تُركّب، وتمحو، أو تعيد الكتابة، كمن يحاول أن يكتب تاريخاً بديلاً لما حدث فعلاً. هذه العملية لا تخلو من الألم، لكن فيها أيضاً تحريراً. وربما لهذا السبب، وجد المشروع صدى كبيراً لدى لجنة تحكيم الجائزة، التي اعتبرت أن خليفة "تمكنت من تفكيك خطاب الصمت وإعادة بناء ذاتها من خلال الصورة". إن الألبوم العائلي، هو وثيقة يُفترض أن تحتفي بالاستقرار والحنين، غير أن خليفة تُقحم المتلقي في صراع داخلي، وتحيلنا إلى تساؤلات عدة حول الذاكرة التي نثق بها، ومن يروي القصة؟ وهل يمكن لأدوات الفن أن تُعيد كتابة ما شوهته بنية القمع؟.
لا ينحصر "عين النمرة" في الحيز الشخصي، بل يتجاوزه ليطرح أسئلة حول الأسرة، والدين، وسلطات التنشئة الاجتماعية. عبر المزج بين اليوميات والصور، يتولد خطاب نقدي ضد البنى التي ساهمت في ترسيخ الصمت، وتدجين الجسد الأنثوي. وتمثّل مشاركة هبة خليفة والتنويه بعملها في مهرجان آريل مؤشراً لافتاً على الحضور المتزايد للفنانين العرب في المحافل البصرية الدولية، ليس بوصفهم ممثلين لثقافة شرقية فقط، بل كمنتجين لخطابات نقدية تسائل المنظومات الدولية من موقع ذاتي ومُركّب. وفي وقت تستحوذ فيه موضوعات ما بعد الاستعمار، والهويات الجندرية، والذاكرة المتنازع عليها على اهتمام الوسط الفني العالمي، تأتي مشاريع مثل عين النمرة، لتؤكد أن التجربة الشخصية قادرة على ملامسة الجراح العامة، بشرط أن تُروى بصدق، وبذكاء بصري وفكري.
إن الاحتفاء هنا لا يقتصر على مشروع هبة خليفة فقط، بل بمسار من التحدي والمساءلة، تنقله خليفة من كاميرا إلى صورة، ومن صورة إلى جرح مفتوح لا يطلب الشفقة، بل يطالب بالاعتراف. فعين النمرة ليست فقط مشروعاً فوتوغرافياً، بل محاولة شجاعة لقول ما لا يُقال، بطريقة لا يمكن تجاهلها.
تعليقات
إرسال تعليق